الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
واعلم أن الأمراض التي تنشأ عن أكله تنتقل إلى الغير فلا يقتصر ضررها على المصاب بل يكون مصدرا للعدوى.وإنما يلازم ذلك الطّفيل الخنازير خاصة لأنها متوغلة بأكل الجيف والعفونات والأقذار، فضلا عن أن أكله يورث قلة المروءة والغيرة لأنك لا تجد حيوانا يشاهد مثله حين ينزو على الأنثى إلّا حاربه غير الخنزير فإنه يعينه على الفعل إذ يسنده بظهره حالة نزوّه ويركيه على الأنثى، ولهذا نجد المدمنين على أكله لا يبالون بما يصيب أعراضهم ولا يهمهم شأن نسائهم لأن اللّه تعالى أزال مادة الحياة منهم، أجارنا اللّه وحمانا من كلّ سوء ووقانا بفضله ولطفه.قال تعالى: {وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} أي ذبح على غير اسم اللّه بأن يبتدأ باسم الموثن عند الذبح، وهذا أمر تعبدي تعبدنا اللّه به صونا لألوهيته من أن يشرك بها غيرها.قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الآية 121 من سورة الأنعام في ج 2 ولا حق لنا أن نقول لما ذا بعد أن صرح لنا بتحريمه لأن أفعال اللّه لا تعلل {وَالْمُنْخَنِقَةُ} الميتة خنقا بدل الذبح كما يفعله الهندوس وغيرهم، وبعضهم يضربون الحيوان ضربة قوية على رأسه بآلة حديدية فيخر ميتا {وَالْمَوْقُوذَةُ} المقتولة ضربا {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} الواقعة بنفسها أو المطروحة من مكان عال أو جبل شاهق فتموت {وَالنَّطِيحَةُ} من شاة أو بقرة أو غيرهما حتى تموت، فهذه كلها حكمها حكم الميتة وفيها ما فيها، إلا أنه لما كان موتها بسبب أفردها بالذكر لئلا يتذرع أحد بأنها لا تسمى ميتة ولا تدخل في حكمها {وَما أَكَلَ السَّبُعُ} بأن أكل بعضه فمات، والسّبع يطلق على كلّ حيوان له ناب يعدو على النّاس والدّواب كالأسد والذئب والنّمر وغيره، فكذلك أيضا حكمها حكم الميتة، ثم استثنى تعالى شأنه من هذه الأحوال فقال: {إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ} بأن أدركتموه حيّا حياة مستقرة كعين تطرف أو ذنب يتحرك أو رجل ترفس فذبحتموه قبل أن يموت فيحل لكم أكله، لأن الذكاة كما ذكرنا آنفا تصفى تلك الدّماء السّامة وتخلص اللحم من المواد الضّارة بحكمة اللّه تعالى، أما الحياة غير الثابتة في الحيوان مما يرى في حركاته بسبب تفلص الدّم في عروقه أو اختلاج أطرافه وجوانبه فلا تعد حياة مجيزة لأكله لأن هذه الحركات والاختلاجات قد تكون في الحيوان بعد الذبح بل بعد السّلخ، لذلك لا عبرة بها ولا يحل أكلها لأن جمود العين وعدم تحرك الذنب ورفس الرّجل مما يدل على عدم وجود حياة حقيقة في الحيوان تحل أكله {وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} التي كانت تعظمها الجاهلية وهي أحجار منصوبة حول الكعبة بزمنهم كانوا يذبحون عليها لأصنامهم، فهذه وما هو في حكمها الآن كالذبح على الأحجار لأجل البناء خاصة الذي لا يقصد به وجه اللّه ولا يسمى عليه اسمه بل ذكر اسمه الشّيخ الفلاني أو الولي الفلاني فأكله حرام، أما إذا قال للّه وذكر عليه اسمه تعالى ثم قال وثوابه إلى الشّيخ أو الولي أو حضرة الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم فلا بأس بأكله، وهذا الأمر بعدم أكل المذبوح على النّصب تعبديّ أيضا لصيانة اسم الإله من الإشراك بغيره وتعظيم ما لم يكن معظما، وهذا يشمل جميع ما يؤكل لا يختص بشيء من الأنعام.قال تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ} القداح السبعة المستوية التي يتفاءلون بها عند إقدامهم وإحجامهم، على أمر من الأمور، وقد كتبوا على أحدها (أمرني ربي) وعلى الثاني (نهاني) وعلى الثالث (منكم) وعلى الرّابع (من غيركم) وعلى الخامس (ملصق) وعلى السّادس (العقل) والسّابع مغفل لا شيء عليه، فإذا أرادوا سفرا أو زواجا أو تجارة أو اختلفوا في نسب أحد أو أمر قتل أو تحمل دية أو غير ذلك جاءوا إلى هبل أكبر أصنامهم وأعطوا مائة درهم لصاحب القداح حتى يحملها لهم فيجيلها ثم ينشرها أمامه، فإذا خرج أمرني ربي فعلوا السّفر والزواج والتجارة وشبهها، وإن خرج نهاني ربي لم يفعلوا شيئا من ذلك، وإن خرج منكم فالولد المختلف عليه في النّسب يكون منهم، وإن خرج من غيركم فليس منهم، وإن خرج ملصق كان على حاله، وإن خرج العقل فيتحمل الدّية، وإن خرج المغفل الذي ليس عليه كتابة نشروها ثانيا، وهكذا حتى يخرج المكتوب عليه مما يريدون ويوافق ما نشروها لأجله.وقال بعضهم ان الأزلام ثلاثة فقط واحد مكتوب عليه أمرني ربي، والآخر نهاني ربي، والثالث مغفل لا شيء عليه، وعلى الأوّل عندهم المعول {ذلِكُمْ} العمل الذي اخترعتموه محرم عليكم فعله لأنه {فِسْقٌ} خارج عما أحل لكم أيها المؤمنون لأنه من مفتريات الجاهلية {الْيَوْمَ} بعد أن شرفكم اللّه بالإسلام وتمكن فيكم الإيمان، فقد {يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} أن ترجعوا إليه ثباتا، لأنكم تركتم الكفر وعوائد الجاهلية وركنتم إلى الإسلام وانقطع أملهم منكم، إذ لو بقيتم على عوائدهم لبقي لهم أمل فيكم، لذلك يجب عليكم ترك عاداتهم كلها كما تركتم دينهم الباطل لأنها أشياء باطلة من مخترعاتهم الدّاهية {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} أنا اللّه الذي أحيي وأميت وأجازي وأكافي، لا رب غيري ولا إله سواي يعبد، الحلال ما أحللته والحرام ما حرمته.والجملة نزلت بعرفة في حجة الوداع هي قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} حدوده وأحكامه حلاله وحرامه فرائضه وسننه {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} فلم أدع شيئا يتعلق بأمر دينكم ودنياكم إلّا بينته لكم {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} من سائر الأديان فلا يقبل منكم غيره {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} الآية 86 من آل عمران المارة.{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} الآية 19 منها أيضا، وهذه الجملة واقعة كالمعترضة بين ما قبلها وما بعدها كسائر الآيات المتقدمة والمتأخرة في النّزول عن سورها فإنها تكون معترضة كذلك {فَمَنِ اضْطُرَّ} لتناول شيء مما حرم عليه {فِي مَخْمَصَةٍ} شدة جوع فأكل مما حرم عليه لعدم وجود شيء حالة كونه {غَيْرَ مُتَجانِفٍ} مائل {لِإِثْمٍ} مما أكل بأن كان زيادة على سد الرّمق {فَإِنَّ اللَّهَ} الذي رخص لكم هذا {غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) لا يؤاخذكم على ذلك بل يغفر لكم ذنبكم رحمة يحالكم لأن الضّرورات تبيح المحظورات، أما إذا استعمل الإنسان شيئا من هذه لغير ضرورة أكل أو زيادة على سد الرّمق غير مستحل له فيفسق شرعا لخروجه عن الطّاعة لما حده اللّه عليه، وإذا استحل شيئا منها يكفر، وقد بيّنا ما يتعلق في هذا وما قبله من المحرمات والمستثنيات في الآية 174 من سورة البقرة المارة.روى البخاري ومسلم عن طارق بن شهاب قال جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لا تخذنا ذلك اليوم عيدا، قال فأي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} إلخ، فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بعرفات يوم الجمعة من شهر ذي الحجة سنة عشر من الهجرة، والنّبي واقف بعرفة، فقرأها في خطبته وقال أيها النّاس إن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلّوا حلالها وحرموا حرامها.وإنما قال تعالى يوم نزلت هذه الآية {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} مع أنه كان ولم يزل راضيا عن دين الإسلام قبل وبعد لبلوغه إذ ذاك رتبة الكمال، إذ بلغ أقصى درجاته من أصول وفروع، وليحثنا على التمسك به وزيادة المحافظة عليه، روى البغوي بسنده عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول قال جبريل قال اللّه عز وجل هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلّا السّخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه.وروى أنها لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي اللّه عنه، ولهذا حفظ زمانها ومكانها إذ قال له صلّى اللّه عليه وسلم ما يبكيك؟ قال إنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا أكمل فإنه لم يكمل شيء إلّا نقص، قال صدقت.وفي رواية أن الذي بكى هو سيدنا أبو بكر رضي اللّه عنه فعلى فرض صحتها لا ينافي بكاء عمر أيضا إذ يجوز أن كلاهما وقع منه ذلك، ولكن هذه الحادثة تؤيد ما جرينا عليه من أن الذي بكى هو عمر لأن السّؤال وقع من اليهودي له لا لأبي بكر.وقد أخذ من هذه الآية نعي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لأنه هو صاحب الدّين ولم يعش بعدها إلا واحدا وثمانين يوما إذ كانت وفاته يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام ولا حدود ولا أحكام ولا فرض ولا سنه عدا قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} الآية 282 من البقرة إذ تأخر نزولها عن سورتها، وقد أوضحنا ما يتعلق في هذا البحث عند تفسيرها فراجعه، وذكرنا آنفا أن هذه الآية لا تعدّ مكية وإن كان نزولها بمكة لأن كلّ ما نزل بعد الهجرة يسمى مدنيا.هذا وإنما قال صلّى اللّه عليه وسلم أحلوا حلالها وحرموا حرامها وكلّ سور القرآن يجب أن نحل حلالها ونحرم حرامها لزيادة الاعتناء على حد قوله تعالى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} الآية 36 من سورة التوبة، على أنه لا يجوز الظّلم في شيء ما في جميع الأشهر، وإنما خص الحرم بعدم الظّلم لزيادة الاعتناء ولاشتمال هذه السّورة على ثمانية عشر حكما لا توجد في غيرها، أولها للمنخنقة وآخرها {شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الآية 106 الآتية قال تعالى يا سيد الرّسل: {يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ} من المأكولات {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ} من كلّ ما تستطيبونه مما لم يرد نص بتحريمه والطّيب ما استطابته العرب أولو القوى الطّيبة والعقول السّليمة، لأن هذا الصّنف لا يستلذ إلا بالطيبات.
.مطلب في أحكام الصّيد وما يؤكل منه وما لا وما هو المعلم من غيره والصّيد بالبندقية والعصا وغيرهما: {وَ} أحل لكم صيد {ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ} الكواسب للصيد كالكلب والنّمر والفهد والعقاب والصّقر والبازي والشّاهين والباشق وغيرهما أحل لكم صيدها حالة كونها {مُكَلِّبِينَ} أي مؤدبين هذه الحيوانات ومعلميها على الاصطياد بأن تمسكه لكم ولا تأكله لأنها لا ترسل إلى الصّيد ولا يجوز أن يؤكل من صيدها إلّا إذا كانت معلّمة، ولهذا قال تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} به من العلم بأصول إرسالها والاصطياد بها، فإذا تعلمن {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} من الصّيد فهو حلال {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} حين إرسال الحيوان والطّير عند الذبح إذا أدركتموه حيا {وَاتَّقُوا اللَّهَ} من أن تخالفوا تعاليمه هذه وغيرها فإنه محاسبكم عليها {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ} إذا حاسب وسرعة حسابه هو أنه تعالى يحاسب الخلق كلهم محاسبة رجل واحد مثل طرفة عين أحدكم.تنبه هذه الآية إلى أنه تعالى يحاسبكم إذا أقدمتم على خلاف تعاليمه، قال عدي بن حاتم وزيد الخيل بن المهلهل يا رسول اللّه إنا قوم نصيد بالكلاب و(باليزادة) العصا العظيمة فماذا يحل لنا؟ نزلت هذه الآية.واعلم أن شروط التعليم في الحكم الشّرعي هي أنك إذا أوسدت الكلب أو غيره على الصّيد أي أغربته به (وأوسد بمعنى أسرع) وإذا أشليته أي دعوته شلى بمعنى رجع، وإذا زجرته عن الصّيد انزجر، وإذا أخذت الصّيد أمسكت عنه فلا تأكل منه شيئا، وأن لا ينفر منه إذا أراده، وأن يجيبه إذا دعاه، فإذا وجد هذا التأديب في الجوارح مرارا أقلها ثلاث كانت معلمة يحل قتلها وأكل صيدها وإلّا لا.روى البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقلت إنا قوم نصيد بهذه الكلاب، فقال إذا أرسلت كلبك المعلم ذكرت اسم اللّه عليه فكل مما أمسك عليك إلّا أن يأكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه، وإن خالط كلابا لم يذكر اسم اللّه عليها فأمسكن وقتلن فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره.وفي رواية: لا تدري أيها قتل.قال وسألته عن صيد المعراض فقال إذا أصبت بحده فكل وإذا بعرضه فقتل فاوقذ فلا تأكل لأنه يصير بحكم الميتة ضربا وهو حرام.وعليه فيجوز أكل الصّيد بضرب العصا أو الحجر الميتة ضربا وهو حرام.وعليه فيجوز أكل الصّيد بضرب العصا أو الحجر إذا لم يمت بها كما تقدم بالآية الثالثة المارة آنفا وإذا رميت الصّيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلّا أثر سهمك فكل فإن وقع في الماء فلا تكل لاحتمال أنه مات خنقا بسبب الغرق فيه، وأما صيد البندقية فإنه يؤكل سواء أدركه حيا فذبحه أو ميتا، وقد أفنى بهذا شيخ الإسلام المرحوم زنبلي على أفندي في فتاواه ج 2 ص 244 في كتاب الصّيد استدلالا بما مر.
|